فصل: صبره واحتسابه رحمة الله عليه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)



.صبره واحتسابه رحمة الله عليه:

قال الله سبحانه وتعالى: {ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم}. ولقد رأيته رحمه الله بمرج عكا وهو على غاية من مرض اعتراه بسبب كثرة دماميل كانت ظهرت عليه من وسطه إلى ركبتيه بحيث لا يستطيع الجلوس وإنما يكون منكباً على جانبه إن كان بالخيمة وامتنع من مد الطعام بين يديه لعجزه عن الجلوس وكان يأمر أن يفرق على الناس وكان مع ذلك قد نزل بخيمة الحرب قريباً من العدو وقد رتب الناس ميمنة وميسرة وقلباً تعبية القتال وكان مع ذلك كله يركب من بكرة النهار إلى صلاة المغرب يطوف على الأطلاب صابراً على شدة الألم وقوة ضربان الدمامل وأنا أتعجب من ذلك فيقول إذا ركبت يزول عني ألمها حتى أنزل وهذه عناية ربانية.
ولقد مرض رحمه الله ونحن على الخرنوبة وكان قد تأخر عن تل الحجل بسبب مرضه فبلغ الإفرنج فخرجوا طمعاً في أن ينالوا شيئاً من المسلمين وهي نوبة النهر فخرجوا في مرحلة الآبار التي تحت التل فأمر رحمه الله بالثقل حتى يتجهز بالرحيل والتأخر عن جهة الناصرة. وكان عماد الدين صاحب سنجار متمرضاً أيضاً فأذن له أن يتأخر مع الثقل وأقام هو ثم رحل العدو في اليوم الثاني بطلبنا فركب على مضض ورتب العسكر للقاء القوم تعبية الحرب وجعل طرف الميمنة الملك العادل وطرف الميسرة تقي الدين وجعل ولده الملك الظاهر والملك الأفضل عز نصرهما في القلب ونزل هو وراء القوم يطلبهم وأول ما نزل من التل أحضر بين يديه أفرنجي قد أسر من القوم فأمر بضرب عنقه بين يديه بعد عرض الإسلام عليه وإبائه عنه وكلما سار العدو يطلب رأس النهر سار هو مستديراً إلى ورائهم حتى يقطع بينهم وبين خيامهم وهو يسير ساعة ثم ينزل يستريح ويتظلل بمنديل على رأسه من شدة وقع الشمس ولا ينصب له خيمة حتى لا يرى العدو ضعفاً ولم يزل كذلك حتى نزل العدو برأس النهر ونزل هو قبالتهم على تل مطل عليهم إلى أن دخل الليل ثم أمر العساكر المنصورة إن عادت إلى محل المصابرة وأن يبيتوا تحت السلاح وتأخر هو ونحن في خدمته إلى قمة الجبل فضربت له خيمة لطيفة وبتنا تلك الليلة أجمع أنا والطبيب نمرضه ونشاغله وهو ينام تارة ويستيقظ أخرى حتى لاح الصباح ثم ضرب البوق وركب هو وركبت العساكر وأحدقت بالعدو ورحل العدو عائداً إلى خيامهم من الجانب الغربي من النهر وضايقهم المسلمون في ذلك اليوم مضايقة شنيعة وفي ذلك اليوم قدم أولاده بين يديه احتساباً وجميع من حضر منهم ولم يزل يبعث من عنده حتى لم يبق عنده إلا أنا والطبيب وعارض الجيش والغلمان بأيديهم الأعلام والبيارق لا غير فيظن الرائي لها عن بعد أن تحتها خلقاً عظيماً ولم يزل العدو سائراً والقتل يعمل فيهم وكلما قتل منهم شخص دفنوه وكلما جرح منهم رجل حملوه حتى لا يبقى بعدهم من يعلم قتله وجرحه وهم سائرون ونحن نشاهدهم حتى اشتد بهم الأمر ونزلوا عند الجسر وكان الإفرنج متى نزلوا إلى الأرض آيس المسلمون من بلوغ غرض منهم لأنهم يجتمعون في حالة النزول جماعة عظيمة وبقي رحمه الله في موضعه العساكر على ظهور الخيل قبالة العدو إلى آخر النهار ثم أمرهم أن يبيتوا على مثل ما باتوا عليه بارحتهم وعدنا إلى منزلنا في الليلة الماضية وعاد العسكر في الصباح إلى ما كان عليه بالأمس من مضايقة العدو ورحل العدو وسار على ما مضى من القتل والقتال حتى دنا إلى خيامه وخرج إليه منها من أنجده حتى وصلوا إلى خيامهم.
فانظر إلى هذا الصبر والاحتساب وإلى أي غاية بلغ هذا الرجل. اللهم إنك ألهمته الصبر والاحتساب ووفقته فلا تحرمه ثوابه يا أرحم الراحمين.
ولقد رأيته رحمه الله تعالى وقد جاءه خبر وفاة ولد له بالغ يسمى إسماعيل فوقف على الكتاب ولم يعرف أحداً ولم نعرف حتى سمعناه من غيره ولم يظهر عليه شيء من ذلك سوى أنه لما قرأ الكتاب دمعت عينه.
ولقد رأيته ليلة على صفد وهو يحاصرها وقد قال لا ننام الليلة حتى تنصب لنا خمس مناجيق ورتب لكل منجنيق قوماً يتولون نصبه وكنا طول الليل في خدمته قدس الله روحه في ألذ مفاكهة وأرغد عيش والرسل تتواصل تخبره بأن قد نصب من المنجنيق الفلاني كذا ومن المنجنيق الفلاني كذا حتى أتى الصباح وقد فرغ منها ولم يبق إلا تركيب خنازيرها عليها وكانت من أطول الليالي وأشدها برداً ومطراً.
ورأيته وقد وصل إليه خبر وفاة تقي الدين ابن أخيه ونحن في مقابلة الإفرنج جريدة على الرملة وبيننا وبينهم شوط فرس لا غير فأحضر الملك العادل وعلم الدين سليمان وسابق الدين وعز الدين وأمر بالناس فطردوا من قريب الخيمة بحيث لم يبق حولها أحد زيادة عن غلوة سهم ثم أظهر الكتاب ووقف عليه وبكى بكاءً شديداً حتى أبكانا من غير أن نعلم السبب ثم قال رحمه الله والعبرة تحنقه توفي تقي الدين فاشتد بكاؤه وبكاء الجماعة ثم عدت إلى نفسي فقلت استغفروا الله تعالى من هذه الحالة وانظروا أين وفيم أنتم وأعرضوا عما سواه فقال رحمه الله نعم أستغفر الله وأخذ يكررها ثم قال لا يعلم أحد واستدعى بشيء من الماورد فغسل عينيه ثم أشخص الطعام وحضر الناس ولم يعلم بذلك أحد حتى عاد العدو إلى يافا وعدنا نحن إلى النطرون وهو مقر ثقلنا.
وكان رحمه الله شديد الشغف والشفقة بأولاده الصغار وهو صابر على مفارقتهم راض ببعدهم وكان صابراً على مر العيش وخشونته مع القدرة التامة على غير ذلك احتساباً لله تعالى. اللهم إن ترك ذلك ابتغاء مرضاتك فارض عنه وارحمه.

.ذكر نبذ من حلمه وعفوه رحمه الله:

قال الله سبحانه وتعالى: {والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}. لقد كان متجاوزاً قليل الغضب ولقد كنت في خدمته بمرج عيون قبل خروج الإفرنج إلى عكا يسر الله فتحها وكان من عادته أن يركب في وقت الركوب ثم ينزل فيمد الطعام ويأكل مع الناس ثم ينهض إلى خيمة خاصة له ينام فيها ثم يستيقظ من منامه ويصلي ويجلس خلوة وأنا في خدمته نقرأ شيئاً من الحديث أو شيئاً من الفقه، ولقد قرأ علي كتاباً مختصراً تصنيف الرازي يشتمل على الأرباع الأربعة من الفقه ونزل يوماً على عادته ومد الطعام بين يديه ثم عزم على النهوض فقيل له أن وقت الصلاة قد قرب فعاد إلى الجلوس وقال نصلي وننام ثم جلس يتحدث حديث متضجر وقد أخلا المكان إلا ممن لزم فتقدم إليه مملوك كبير محترم عنده وعرض عليه قصة لبعض المجاهدين فقال هل أنا الآن ضجران أخرها ساعة فلم يفعل وقدم القصة إلى قريب من وجهه الكريم بيده وفتحها بحيث يقرأها فوقف على الاسم المكتوب في رأسها فعرفه فقال رجل مستحق فقال يوقع المولى له فقال ليست الدواة حاضرة الآن وكان رحمه الله جالساً في باب الخركاه بحيث لا يستطيع أحد الدخول إليها والدواة في صدرها والخركاه كبيرة فقال له المخاطب هذه الدواة في صدر الخركاه وليس لهذا معنى إلا أمره إياه بإحضار الدواة لا غير فالتفت رحمه الله فرأى الدواة فقال والله لقد صدق ثم امتد على يده اليسرى ومد يده اليمنى فأحضرها ووقع له فقلت قال الله تعالى في حق نبيه صلّى الله عليه وسلّم وإنك لعلى خلق عظيم. وما أرى المولى إلا قد شاركه في هذا الخلق فقال ما ضرنا شيئاً قضينا حاجته وحصل الثواب ولو وقعت هذه المواقعة لآحاد الناس وأفرادهم لقام وقعد ومن الذي يقدر أن يخاطب أحداً هو تحت حكمه بمثل ذلك وهذا غاية الإحسان والحلم والله لا يضيع أجر المحسنين.
ولقد كانت طراحته تداس عند التزاحم عليه لعرض القصص وهو لا يتأثر لذلك ولقد نفرت يوماً بلغتي من الجمال وأنا راكب في خدمته فزحمت وركه حتى آلمته وهو يتبسم رحمه الله. ولقد دخلت بين يديه في يوم ريح مطير إلى القدس الشريف وهو كثير الوحل فنضحت البغلة عليه من الطين حتى أتلفت جميع ما كان عليه وهو يتبسم وأردت التأخر عنه بسبب ذلك فما تركني.
ولقد كان يسمع من المستغيثين والمتظلمين أغلظ ما يمكن أن يسمع ويلقى ذلك بالنشر والقبول. وهذه حكاية يندر أن يسطر وذلك أنه كان قد اتجه أخو ملك الإفرنج خذلهم الله إلى يافا فإن العسكر كان قد رحل عنهم وبعد وتراجع إلى النطرون وهو مكان بينه وبين يافا للعسكر مرحلتان للمجدّ وثلاث معتادة وجمع رحمه الله العسكر ومضى إلى قيسارية يلتقي نجدتهم عساه يبلغ منهم غرضاً وعلم الإفرنج الذين كانوا بيافا ذلك وكان بها الأنكتار ومعه جماعة فجهز معظم من كان عنده في المراكب إلى قيسارية خشية على النجدة أن يتم عليها أمر وبقى الأنكتار في نفر يسير لعلمهم ببعده رحمه الله عنهم وبعد العسكر، ولما وصل رحمه الله إلى قيسارية ورأى النجدة قد وصلت إلى البلد واحتمت به وعلم أنه لا ينال منهم غرضه سرى من ليلته في أول الليل إلى آخره حتى أتى يافا صباحاً والأنكتار في سبعة عشر فارساً وثلاثمائة راجل نازلاً خارج البلد في خيمة له فصبحه العسكر صباحاً فركب الملعون وكان شجاعاً باسلاً صاحب رأي في الحرب وثبت بين يدي العسكر ولم يدخل البلد فاستدار العسكر الإسلامي بهم إلا من جهة البحر وتعبى العسكر تعبية القتال وأمر السلطان العسكر بالحملة انتهازاً للفرصة فأجابه بعض الأكراد بكلام فيه خشونة تعتب لعدم التوفير في إقطاعه فعطف رحمه الله عنان فرسه كالمغضب لعلمه أنهم لا يعملون في ذلك اليوم شيئاً وتركهم وانصرف راجعاً وأمر بخيمته التي كانت منصوبة أن قلعت وانفضوا متيقنين أن السلطان في ذلك اليوم ربما صلب جماعة، ولقد حكى لي ولده الملك الظاهر أعز الله أنصاره أنه خاف منه في ذلك اليوم حتى أنه لم يتجاسر أن يقع في عينيه مع أنه حمل في ذلك اليوم وأوغل ولم يزل سائراً حتى نزل بسازور وما من الأمراء إلا من يرعد خفية ومن يعتقد أنه مأخوذ مسخوط عليه قال ولم تحدثني نفسي بالدخول عليه خفية منه حتى استدعاني قال فدخلت عليه وقد وصله من دمشق المحروسة فاكهة كثيرة فقال اطلبوا الأمراء حتى يأكلوا شيئاً قال فسرى عني ما كنت أجده وطلبت الأمراء فحضروا وهم خائفون فوجدوا من بشره وانبساطه ما أحدث لهم الطمأنينة والأمن والسرور وانصرفوا على عزم الرحيل كأن لم يجر شيء أصلاً فانظر إلى هذا الحلم الذي لا يتأتى في مثل هذا الزمان ولا يحكى عمن تقدم من أمثاله رحمة الله عليه.

.ذكر محافظته على أسباب المروءة:

قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا صافحه الرجل لا يترك يده حتى يكون الرجل هو التارك الذي يبدأ بذلك. ولقد كان السلطان كثير المروءة ندي اليد كثير الحياء مبسوط الوجه لمن يرد عليه من الضيوف حتى يطعم لا يرى أن يفارقه الضيف حتى يطعم عنده ولا يخاطبه بشيء إلا وينجزه وكان يكرم الوافد عليه وإن كان كافراً. ولقد وفد عليه البرنس صاحب إنطاكية فما أحس به إلا وهو واقف على باب خيمته بعد وقوع الصلح في شهر شوال سنة ثمان وثمانين وخمس مائة عند منصرفه من القدس إلى دمشق عرض له في الطريق وطلب منه شيئاً فأعطاه العمق وهي بلاد كان أخذها منه عام فتح الساحل وهو سنة أربع وثمانين.
ولقد رأيته وقد دخل عليه صاحب صيدا بالناصرة فاحترمه وأكرمه وأكل معه الطعام ومع ذلك عرض عليه الإسلام فذكر له طرفاً من محاسنه وحثه عليه.
وكان يكرم من يرد عليه من المشايخ وأرباب العلم والفضل وذوي الأقدار وكان يوصينا بأن لا نغفل عمن يجتاز بالخيم من المشايخ المعروفين حتى يحضرهم عنده وينالهم من إحسانه. ولقد مر بنا سنة أربع وثمانين وخمس مائة رجل جمع بين العلم والتصوف وكان من ذوي الأقدار وأبوه صاحب توريز فأعرض هو عن فن أبيه واشتغل بالعلم والعمل وحج ووصل زائراً لبيت الله المقدس ولما قضى لبانته منه ورأى آثار السلطان رحمه الله فيه وقع له زيارته فوصل إلينا إلى المعسكر المنصور فما أحسست به إلا وقد دخل علي في الخيمة فلقيته ورحبت به وسألته عن سبب ذلك ووصوله فأخبرني بذلك وأنه يؤثر زيارة السلطان لما رأى له من الآثار الحميدة الجميلة فعرفت السلطان بذلك في ليلة وصول هذا الرجل فاستحضره وروى عنه حديثاً ثم انصرفنا وبات عندي في الخيمة فلما صليت الصبح أخذ يودعني فقبحت له المسير بدون وداع السلطان فلم يلتفت ولم يلو على ذلك وقال قد قضيت حاجتي منه ولا عرض لي فيما عدا رؤيته وزيارته وانصرف من ساعته ومضى على ذلك ليال فسأل السلطان عنه فأخبرته بفعله فظهر عليه آثار الغضب كيف لم أخبره برواحه وقال كيف يطرقنا مثل هذا الرجل وينصرف عنا من غير إحسان يمسه منا وشدد النكير علي في ذلك فما وجدت بداً من أن أكتب كتاباً إلى محيي الدين قاضي دمشق كلفته فيه السؤال عن حال الرجل وإيصال رقعة كتبتها إليه طي كتابي أخبره فيها بإنكار السلطان رواحه من غير اجتماعه به وحسنت له فيها العود وكان بيني وبينه صداقة تقتضي مثل ذلك فما أحسست به إلا وقد عاد إلي فرحب به السلطان وانبسط معه وأمسكه أياماً ثم خلع عليه خلعة حسنة وأعطاه مركباً لائقاً وثياباً كثيرة يحملها إلى بنيه وأتباعه وجيرانه وانصرف عنه وهو أشكر الناس وأخلصهم دعاءً لأيامه.
ولقد رأيته وقد مثل بين يديه أسير إفرنجي قد أصابه كرب بحيث أنه ظهرت عليه أمارات الخوف والجزع فقال للترجمان من أي شيء يخاف فأجرى الله على لسانه أن قال كنت أخاف قبل أن أرى هذا الوجه فبعد رؤيتي له وحضوري بين يديه أيقنت أنه ما أرى إلا الخير. فرق له ومن عليه وأطلقه ولقد كنت راكباً في خدمته في بعض الأيام قبالة الإفرنج وقد وصل بعض اليزكية ومعه امرأة شديدة التخوف كثيرة البكاء متواترة الدق على صدرها قال اليزكي إن هذه خرجت من عند الإفرنج فسألت الحضور بين يديك وقد أتينا بها فأمر الترجمان أن يسألها عن قصتها فقالت اللصوص المسلمون دخلوا البارحة إلى خيمتي وسرقوا ابنتي وبت البارحة أستغيث إلى بكرة النهار فقال لي المملوك السلطان هو أرحم ونحن نخرجك إليه تطلبين ابنتك منه فأخرجوني إليك وما أعرف ابنتي إلا منك. فرق لها ودمعت عينه وحركته مروءته وأمر من ذهب إلى سوق العسكر يسأل عن الصغيرة من اشتراها ويدفع له ثمنها ويحضرها وكان قد عرف قضيتها من بكرة يومه فما مضت ساعة حتى وصل الفارس والصغيرة على كتفه فما كان إلا أن وقع نظرها عليها فخرت إلى الأرض تعفر وجهها في التراب والناس يبكون على ما نالها وهي ترفع طرفها إلى السماء ولا نعلم ما تقول فسلمت ابنتها إليها وحملت حتى أعيدت إلى عسكرهم.
وكان لا يرى الإساءة إلى من صحبه وإن أفرط في الخيانة ولقد أبدل في خزائنه كيسان من الذهب المصري بكيسين من الفلوس فما عمل بالنواب شيئاً سوى أن صرفهم من عملهم لا غير.
ولقد دخل البرنس أرناط صاحب الكرك مع ملك الإفرنج بالساحل لما أسرهما في وقعة حطين في شهور سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة والواقعة مشهورة تجيء مشروحة في موضعها إن شاء الله تعالى وكان قد أمر بإحضارهما وكان أرناط هذا اللعين كافراً عظيماً جباراً شديداً وكانت قد اجتازت به قافلة من مصر حين كان بين المسلمين وبينهم هدنة فغدرها وأخذها ونكل بهم وعذبهم وأسكنهم المطامير والحبوس الحرجة وذكروا له حديث الهدنة فقال قولوا لمحمدكم يخلصكم فلما بلغه رحمه الله ذلك عنه نذر أنه متى أظفره الله به قتله بنفسه فلما أمكنه الله منه في ذلك اليوم قوى عزمه على قتله وفاءً بنذره فأحضره مع الملك فشكا الملك العطش فأحضر له قدحاً من شراب فشرب منه ثم ناوله أرناط فقال السلطان للترجمان قل للملك أنت الذي سقيته وأما أنا فما أسقيه من شرابي ولا أطعمه من طعامي فقصد رحمه الله أن من أكل من طعامي فالمروءة تقتضي أن لا أؤذيه ثم ضرب عنقه بيده وفاءً بنذره وأخذ عكا وأخرج الأسرى كلهم من ضيق الأسر وكانوا زهاء أربعة آلاف أسير وأعطى كل واحد منهم نفقة يصل بها إلى بلده وأهله. هكذا بلغني على ألسنة جماعة لأني لم أحضر هذه الواقعة.
وكان حسن العشرة لطيف الأخلاق طيب الفكاهة حافظاً لأنساب العرب ووقائعهم عارفاً بسيرهم وأحوالهم حافظاً لأنساب خيلهم عالماً بعجائب الدنيا ونوادرها بحيث كان يستفيد محاضره منه ما لا يسمع من غيره.
وكان حسن الخلق يسأل الواحد منا عن مرضه ومداواته ومطعمه ومشربه وتقلبات أحواله.
وكان طاهر المجلس لا يذكر بين يديه أحد إلا بخير السمع فلا يحب أن يسمع عن أحد إلا الخير وطاهر اللسان فما رأيته ولع بشتم قط، وكان حسن العهد والوفاء فما أحضر بين يديه يتيم إلا وترحّم على مخلفيه وجبر قلبه وأعطاه وجبر مصابه وإن كان له من أهله كبير يعتمد عليه سلمه إياه وإلا أبقى له من الخير ما يكف حاجته وسلمه إلى من يعتني بتربيته ويكفلها.
وكان لا يرى شيخاً إلا ويرق له ويعطيه ويحسن إليه ولم يزل على هذه الأخلاق إلى أن توفاه الله إلى مقر رحمته ومكان رضوانه.
فهذه نبذ من محاسن أخلاقه ومكارم شيمه اقتصرت عليها خوف الإطالة والسآمة وما سطرت إلا ما شاهدته أو أخبرني الثقة به وحققته وهذا بعض ما اطلعت عليه في زمان خدمتي له وهو يسير فيما اطلع عليه غيري ممن طالت صحبته وتقدمت خدمته ولكن هذا القدر يكفي الأديب في الاستدلال على طهارة تلك الأخلاق والخلال، وحيث نجز هذا القسم فنشرع الآن في القسم الثاني من الكتاب في بيان تقلبات أحواله ووقائعه وفتوحاته في تواريخها قدس الله روحه. ونور بنور رحمته ضريحه.